جريمة جرابلس في سوريا: غياب السياسة

لا تنفصل جريمة قتل رشا بسيس في جرابلس شمال سوريا، عن طبيعة الإدارة التي تحكم المدينة. الفتاة التي أمطرها شقيقها بالرصاص على دفعات، ووثق فعلته في فيديو نشر على وسائل التواصل، يسهل تفسيرها بمفهوم الشرف، ضمن مجتمع ذكوري، و”غسل العار”، من دون التنبه إلى أن هذا البعد الاجتماعي المستقوي بقيم محافظة، معطوف عليها نظرة دونية للمرأة من قبل الدين، ينسحب على زمن الثورة وزمن النظام معا. وانعدام التمييز هنا يحيل إلى السياسة التي تحكم الزمنين وتترك المفاهيم التي تشكل البنية التحتية للقتل، عرضة للاستخدام.
فالمناطق المحررة التي خرجت عن سيطرة الأسد، وبينها جرابلس مسرح الجريمة، افتقرت لنموذج حكم يقطع مع ذلك السابق الذي انتفضت ضده، بمعنى أن معركتها كانت مع النظام، الذي حكمها بالاستبداد، وليس مع القيم التي تشكل مرجعا لهذا الاستبداد وتمده بالاستمرار. وهذا ما يفسر احتكام أهالي هذه المناطق للمحاكم الشرعية، مع دور ضعيف للمجالس المحلية، التي باتت لاحقاً مرهونة للقوى العسكرية ذات الصبغة الإسلامية. والأخيرة لعبت دوراً في منع أي دور للسياسة في مجتمعات المعارضة، بذريعة، محاربة النظام، الذي ساهم من جانبه، عبر موجات القصف، التي كانت تتبع أي انهيار في المفاوضات، بخلق أوضاع استثنائية، منحت قيادات الفصائل شرعية لضبط الجماعات الأهلية وكبح أي محاولة لتحسين خيارات أفرادها.
وإذا كانت أحوال المناطق المحررة تتفاوت تبعاً لشروط القوى المتحكمة بها وأجندة الممولين، وخطط النظام في القضم والإخضاع، فمعروف أن جرابلس، هي جزء من مناطق تتحكم بها كتائب موالية لتركيا، حاربت الأكراد وتنظيم “الدولة الإسلامية”، لتوفير شريط حدودي آمن لأنقرة، بمعنى أنها تقوم بدور وظيفي لدولة أخرى، ما يجعل إدارتها للمجتمعات التي استحكمت عليها أمرا ثانويا، واستكمالاً لوظيفتها الاستراتيجية. فبدل خلق سياسات تمثيل وآليات محاسبة، عمدت قوى الأمر الواقع إلى ضبط المجتمع على إيقاع قيمه المحافظة، لمنع أي خروج اجتماعي عن سياق الدور العسكري الواجب تنفيذه. والقيم المحافظة في جرابلس تكتسب صلابة بسبب وقوع المدينة فترة ليست بالقليلة تحت سلطة تنظيم “الدولة”، خصوصاً أن الأخير لم يكتف بالسيطرة على المناطق، بل سعى إلى قولبة مجتمعاتها وفق نموذجه، ما يعني أن تحرير جرابلس من الإرهاب كان يتطلب نموذجا بديلا، وليس ترك الحال كما هو، وإفساح المجال للتلاعب بالتناقضات التي غالباً ما تنتجها القيم المحافظة المتروكة للتكلس، واستحالة التطبيق. وهذا التلاعب، هو تحديداً المسؤول عن قتل رشا، التي نشرت صفحة على موقع “انستغرام” معنية بكشف فضائح قادة الفصائل في جرابلس، صورتها واتهمتها بممارسة الدعارة، فما كان من شقيقها إلا أن قتلها موثقاً جريمته.
أي أن الفصائل المعنية بإدارة المجتمع وجهت لقادتها اتهامات “أخلاقية”، فيما الإعلام الجديد الذي يجب أن يلعب دوراً رقابياً يقوم بممارسة الفضائحية والتدخل في الخصوصيات الفردية، ما يعني أننا حيال مساحة شاسعة بين القيم وتحديدها، وبين المفاهيم والأدوات الثقافية المخصصة لاستقبالها، مساحة تصرف الكثير من حاجات قوى الأمر الواقع. فالشرف هنا، يصرّف حاجات قادة الفصائل، وحاجات التلصص وممارسة الرقيب الأخلاقي لدى الإعلام الجديد، وحاجات استضعاف المرأة وتحويل جسدها مساحة لاستعادة الكرامة لدى المجتمع، الذي تمثل بشقيق رشا.
إذن، نحن حيال انعدام للسياسة التي تنتج نموذجا لممارسة العيش ضمن قيم نسبية تتشارك في تبادلها الجماعات، على اختلاف توجهاتها وطرق حياتها، ما يترك المجال لتسيد قيم محافظة، المسافة بينها وبين تطبيقها، يخلق تناقضات تستغلها قوى مسيطرة، فتدفع ضحية مثل رشا الثمن وتقتل بشكل وحشي.
إيلي عبدو / القدس

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك