حرب تركية جديدة على السوريين … ضرب لأمن المنطقة وعرقلة مشاريع الاستقرار والتنمية واستهداف للمدنيين

لفت قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، قبل أيام في مقابلته مع موقع الموينتور بانتهاء ما يسمى” الحروب الكبرى في سوريا” وذلك رداً على إمكانية غزو تركي جديد على شمال شرق سوريا، معللاً بإنّ “التوازنات لا تسمح بذلك”. بالمقابل، شدد الرئيس التركي رجب أردوغان في غضون الأسابيع المنصرمة بأنّ بلاده ستقدم على ضرب شمال شرق سوريا بـ”قدراتهم الخاصة” فيما لو لم يحصل على الضوء الأخضر من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

بعد أيام قليلة من تصريحات قائد “قسد”، كانت قناة أولصال (ULUSAL) التركية والعائدة لزعيم حزب الوطن وأحد أذرع الدولة العميقة، دوغو برينجك، تنشر تقريراً مصوراً لطائرات تركية بدون طيار وهي تستهدف عائلة الشهيد يوسف كلو في مدينة القامشلي، معلقة وبلهجة تعبر عن فرحة النصر في الحرب بإنّ يوسف كلو، البالغ 82 عاماً، كانت له علاقات تاريخية مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان وعناصر الحزب وقيادات قوات سوريا الديمقراطية. هكذا، وبعجالة تقرير دعائي، تقلب قناة برينجك إرهاب الدولة ضد المدنيين العزل إلى نصر تاريخي بمعية الطائرات المسيرة.

عموماً، كان القصد من تصريحات عبدي استبعاد خيار الاجتياح العسكري التقليدي على غرار ما حصل في سري كانيه وتل أبيض وعفرين، بينما كان أردوغان مثل برينجك، يلوح بحرب من نوع آخر، حرب تدار فعلياً منذ سنوات، ولا تحتاج إلى تكهنات واحتمالات مستقبلية وما شابه من الحسابات العسكرية التقليدية لمعرفة مآلاتها. حرب لا تشبه الحروب التقليدية، وإنّما تخاض من خلال طائرات بلا طيار، لا تفرق أهدافها بين المدنيين والعسكريين، وذلك على امتداد كوباني وقامشلي وتل تمر وشنكال وجبال كردستان. وثمة مناطق أخرى مرشحة بصورة دائمة تنتظر مصيرها المجهول. حتماً لسنا أمام سيناريو حرب البنتاغون ومطاردة “الإرهابيين” عبر الطائرات المسيرة، وإنّما نشير إلى السكان المحليين من الكرد وحلفائهم الذين لايزالون يحاربون “الإرهاب الدولي”، ويصارعون الحياة والموت من أجل مشروع تعايشي وتقدمي وسط جحيم سوريا.

هذا الجحيم أو أيا كانت المسميات، أراد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، تأطيره في عبارة” لا سلام ولا حرب” وذلك في جلسة الجمعية العامة التي عقدت حول سوريا قبل أشهر. يمكن للمتابع الاتفاق مع بديهية غوتيريش حول غياب السلام، لكن لا بد من وقفة جادة معه حول غياب الحرب، فالأمين العام يصب مصطلحاته من قاموس نظرية الحروب التقليدية التي تتمحور حول القوات العسكرية ونطاق ساحات الوغى التقليدية في الحروب بين الدول أو الحروب بين جيوش الدول والمليشيات العسكرية، ويتغافل عن طبيعة الحروب الجديدة بعد دخول تقنية طائرات بلا طيار أو الطائرات المسيرة في عصر العولمة.

هذه الحروب الجديدة التي طورتها الولايات المتحدة في بداية الألفية الجديدة، أطلق عليها العالم الاجتماعي البريطاني- اليهودي، زيغمونت باومان، بأنّها “أفعال تدار عن بعد، وهي عبارة عن فصل الفاعل “المرتكب” عن مسؤولية الفعل “الجريمة المباشرة”. تاريخياً، سخرتها النازية لتصفية اليهود في غرف الغاز دون اللقاء أو مواجهة الضحايا وجهاً لوجه. وهذا الفصل، سواء جرى عبر القصف الجوي أو الميداني، يكون مسبباً جوهرياً في تسهيل حدوث الإبادة الجماعية في عصرنا، وحسب باومان في كتابه الرقابة السائلة:” تشكل الطائرات بلا طيار، النسخة الأكثر حداثة من هذه الحروب المدمرة”. فقد تكون أعداد الضحايا المباشرة في ساحات المعارك قليلة، لكن من يطالهم التهجير القسري والتطهير العرقي يصل إلى ملايين أشخاص، فحروب الطائرات المسيرة قياساً بالحروب الكبرى، تخلف نكبات هائلة على المجتمع.

نصب المصيدة:
لكن دعنا نعود إلى الحكاية التاريخية قليلاً، ونتعقب جذور استراتيجية حروب الطائرات الجوية ضد الكرد، ونقف بالضبط عند التجربة التاريخية الأولى التي استحدثها الاستعمار البريطاني في العالم بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نفذتها فيما بعد على عموم مستعمراتها في العالم. وهنا سنكون أمام مفارقة مدهشة. هل علينا أن نصدق بأنّ جغرافية كردستان كانت النسخة التجريبية الأولى على مستوى العالم، التي استحدث فيها استراتيجية “المخطط الجوي” لتصفية تطلعات الكرد وحرمانهم من الحماية القانونية والأخلاقية؟ الإجابة، حسب المؤرخ والمختص في شؤون الكرد، ربروت أولسون، وصاحب مؤلف” الكفاح القومي الكردي” ستكون بـ”نعم”. لكن قبل الخوض في أطروحة أولسون هذه، دعنا نسأل أيضاً، لماذا الكرد على وجه الخصوص؟ للرد على هذا السؤال، ينبغي أن نستعين بالمؤرخ التاريخي المعروف إريك هوبسباوم والذي تحدث في كتابه: “العولمة والديمقراطية والإرهاب” وهو يشير إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، بأن:

“القوى الأجنبية كانت تخسر لحضورها فقط في البقاع التي كانت توجد فيها المقاومة، مثل أفغانستان وكردستان، فهذه المناطق كانت ترفض أي شكل من السلطة المركزية سواء كانت أجنبية أو من أقوام أخرى، على الرغم من أنّهم كانوا يدركون بضرورة التعايش مع السلطان أو الراجا”.

ما سبق يلقي الضوء كيف أنّ الإدارة الاستعمارية البريطانية في الشرق الأوسط، كانت تواجه معضلة في كسر إرادة الكرد هذه، داخل استراتيجيتها المسمى بـ”فرّق تّسد”، بحيث توصلت قيادتها العليا وعلى رأسهم ونستون تشرشل في مؤتمر القاهرة عام 1921 بوجوب فصل كردستان العراق عن نظيرتها كردستان المركزية حيث الجزء الأكبر بات ضمن تركيا، لتشكل حاجزاً منيعاً في وجه التوسع التركي القومي والبلشفي من جهة، وتشبيك كردستان العراق الحالية بفعل القوة والعنف داخل عملية “صناعة دولة العراق” من جهة ثانية. وحسب أولسون فإنّ “المخطط الجوي البريطاني في كردستان كان يهدف إلى تخفيض التزامات الجيش البريطاني في ميزبوتاميا في مطلع عام 1920 ومن ثم إجهاض الطموحات الكردية في إدارة شؤونهم الذاتية بما في ذلك الانقلاب على اتفاقية سيفر”.

تبعاً لذلك، تسلمت وزارة القوات الجوية بقيادة سير جون سالموند إدارة دفة كردستان بعد مؤتمر القاهرة عام 1921، وبدأت مهمة إلقاء القنابل الحارقة على كردستان العراق حالياً، حيث دامت هذه العملية بصورة دورية ومكثفة ابتداء من 1922- 1925، وصف أولسون بأنّ دخول هذه التقنية لأول مرة في التاريخ حسب الوزارة الجوية البريطانية بمثابة:”مثال جيد على تأثير التقنيات في رسم السياسات وصناعة التاريخ، وأنّ الكلفة الضخمة الناجمة من الحرب المباشرة دفعت بريطانيا إلى الحكم غير المباشر، حيث كانت سياسة المخطط الجوي في العراق وكردستان هي أولى الأمثلة على تسخير القوة الجوية في تنفيذ السياسيات التوسعية لبريطانيا العظمى. و في الوقت الذي كان تراجع بريطانيا مستمراً في المناطق الأخرى من العالم، كانت كردستان تعتبر الساحة الأولى لاختبار هذه التجربة بعد الحرب العالمية الأولى”.

كان قصف الكرد أسهل حسب أولسون من تقديم تنازلات “للقومية الكردية” في إدارة شؤونهم سواء لدى بريطانيا الإمبراطورية أو عند الدولة التركية العنصرية الناشئة. فالأخيرة دخلت في أول مواجهة مفتوحة ضد الكرد عبر ثورة الشيخ سعيد بيران. استغلت بريطانيا هذه الواقعة لفصل كردستان العراق عن باقي جغرافية كردستان، وتآمرت مع أنقرة لإجهاض ثورة 1925، وفرضت معاهدة الموصل على أنقرة. لكن تركيا بدورها حسب أولسون، تعلمت بسرعة من البريطانيين ونالت مكافأتها من لندن لدى حصولها على على 106 طائرات، وقلدت على الفور نسخة “المخطط الجوي البريطاني” بوحشية في ثورة آرارات عام 1930.

مع ذلك، فقد تطلبت هذه العملية من تركيا وبريطانيا خمسة وثلاثين سنة لبسط سيطرتهما على كردستان، في حين كان رضا خان في إيران يتقدم على تركيا، حث اتبع سياسة القصف ضد الكرد عام 1926، وهكذا تواصل الإرهاب النفسي الذي تمّ ممارسته على الفلاحين والرحّل الكرد “الكوُجر” في العراق وتركيا وإيران، وخاصة القصف الليلي الحارق. وقد وصف وزير المستعمرات البريطاني، ليوي أميري، استعمال سلاح الجو في كردستان عام 1925 بأنّها “ساحة تدريب رائعة للقوات الجوية”.

وبما أنّ القوات البريطانية استهلكت ذخيرتها الجوية بصورة وحشية ضد الناس في كردستان أولاً ومن ثم في باقي مستعمراتها في العالم ثانياً حسب أروي بيلر، فإنّها قد أخلت بالتوازن في تطوير السلاح الجوي البريطاني (بسبب منحها تركيا كمية ضخمة من مخزونها الجوي)، ووجدت نفسها معزولة أمام السلاح الجوي النازي في بداية الحرب العالمية الثانية، وعليه، استنتج أولسون بأنّ “ثورة الشيخ سعيد ثأرت لنفسها، وبأنّها كلفّت بريطانيا وأوروبا والعالم الغربي ثمناً غالياً”.

هومو سكر:
ومنذ ذلك حين، رُفع الغطاء القانوني والسياسي عن الأمة الكردية باستثناء كردستان العراق بعد سقوط نظام صدام حسين نسبياً. هذه الوضعية المفتقرة إلى الحماية القانونية والأخلاقية جرفت جغرافية كردستان وشعبها تحت وابل التقنية الجوية كأستراتيجية ثابتة وأقل تكلفة لغاية اليوم. هذه الصفحة المخفية من تاريخ الكرد بكل تأكيد تحتاج إلى دراسات علمية ملحة. مؤخراً، أفادت تقارير بأنّ تركيا ومنذ عام 2016 استخدمت طائرات بدون طيار أمريكية الصنع أولاً ومن ثم استحدثت طائرات المراقبة والمسيرة المحلية من طراز “بيرقدار” بمعية إسرائيل، واستخدمتها بصورة دائمة ضد كردستان العراق وشنكال وغرب كردستان وعموم شمال شرق سوريا، بوتيرة مكثفة. وحسب مزاعم المسؤولين الأتراك إنّهم نفذوا أكثر من 81 هدفاً في يوم واحد على سبيل المثال، في الوقت الذي أكد المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف، بأنّ العام الماضي شهد أكثر الغارات الجوية المكثفة منذ عام 2016.

أمام هذه التحولات، يبدو أنّ أنطونيو غوتيريش ومن يناصره من المنظمات الدولية الحقوقية المعنية في شؤون الحروب، أسرى نظرية الحرب التقليدية التي تضع خطاً فاصلاً بين الحرب والسلم، والتفريق بين المدنيين والعسكريين، وعدم تدخل أي دولة في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإن كان لا بد من مواصلة الحرب، فيجدر أن تقتصر عملياتها بين الجنود الذين يرتدون الزي العسكري والمقاتلين، منفصلين عن المدنيين، وهو ما ينبغي في هذه الحالة حسب هذه النظرية، أن تقدم الحماية للمدنيين في زمن الحرب بأكبر قدر ممكن. وهذا على وجه الخاص، خدعة فقدت مفعولها في الحالة السورية عموماً.

يقيناً، إنّ نسخة الحروب المستحدثة في سوريا، خلطت بين صيغة الحرب والسلم وعدم التفرقة بين المدنيين والعسكريين، حيث تتوسع حسب هوبسباوم: “دائرة مثل هذه الحروب بفعل التدخل الأجنبي والإقليمي في ترسيخ النزاعات داخل الدولة الواحدة”. فالحروب الكبرى التقليدية تراجعت، نظراً أنّ أي دولة اليوم لا تستطيع لا عقائدياً ولا مادياً، أن تخوض حروب كبرى بجيوش نظامية مستعدة للقتال والموت في سبيل الوطن. والتجربة الأمريكية في أفغانستان فضحت هذه الاستراتيجية الكلاسيكية، وهو الأمر الذي يدركه أردوغان ومناصري عقيدة الحرب في تركيا جيداً. ومن أجل ذلك، سارعوا منذ سنوات بتشجيع المجال أمام الشركات والمتعاقدين في القطاع الخاص على غرار القوات الجوية الروسية والأمريكية الحالية، لتجنيد المليشيات المتطرفة من جهة، وتسخير التقنية الجوية عبر الطائرات المسيرة في حروبها ضد الكرد من جهة ثانية. إنّها صورة مصغرة لاستراتيجية المخطط الجوي والتدمير الشامل للاستعمار البريطاني قديماً والولايات المتحدة وروسيا حالياً.

لا سلم ولا حرب:
نظرية “لا سلم ولا حرب” التي يستثمرها فريق أردوغان ضد الكرد، تزعم أمام الرأي العام الدولي، بإنّها عبر ضربات جوية خاطفة تقلل من عدد الضحايا ولا تؤدي إلى إفساد حياة الناس وتعطيلها كلياً، لكنها تأخذ من روسيا نظرية استسلام غير مشروط وترفض أي شكل من التفاوض والحوار والقبول، وتستفيد من عبارة البنتاغون الشهيرة “الصدمة والترويع” وذلك بتنفيذ حروب خاطفة ضد المدنيين الكرد من خلال استراتيجية الطائرات المسيرة. حيث اتقن بوتين بدوره هذه الاستراتيجية أحسن اتقان أيضاً في كل من جورجيا والقرم وسوريا، ويريد أردوغان وباهجلي وبرينجك من الكرد أن يتكيفوا إرادياً مع هذا الواقع.

بناء على ما سبق، لا ينبغي أن نقلل من تأثير الحرب من خلال التقنيات المتطورة والغارات الجوية التي لم تعد اليوم تسخر مزيد من القوة البشرية العسكرية، لكنها تبث الدعاية بين المجتمعات المستهدفة وتعمل على زعزعة الثقة والأمل، وتدفع بها نحو حقبة جديدة من تطهير عرقي وتهجير قسري، كما جرى في عفرين وسريكانيه وتل أبيض، وهي تقوم الآن من خلال قتل المدنيين في القامشلي وكوباني وتل تمر وشنكال وغيرها من المناطق المرشحة، بتكثيف مناخ الرعب والهلع ومن ثم فرض الاستسلام.

بالتأكيد، ليست لهذه الاستراتيجية فرص النجاح والمواصلة، إلاّ إذا نُزع الغطاء القانوني والأخلاقي عن جغرافية كردستان وأهلها، وطالما أنّ شمال شرق سوريا والمناطق الكردية الأخرى محرومة من الحماية القانونية، فإنّ مصيرها باتت أشبه بـ” هومو سكر”، مصطلح صكه الفيلسوف الإيطالي جورج أغامبين لوصف حالة “الإنسان المستباح” والذي لا يملك حماية قانونية وأخلاقية أمام العنف العاري وقانون الطوارئ لدى الدولة القومية العنصرية. لكن الدرس الذي تعلمته الأمة الكردية تاريخياً وهي تقارع تقنية الدولة التركية في الإبادة، ربما تختصر في عبارة منسوبة إلى نابليون بونابرت :”يمكنك فعل ما تشاء بالحراب إلاّ أن تجلس عليها”.
الكاتب : فرهاد حمي

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك