أزمة المهاجرين وجدار الفصل العنصري.. بوادر «سايكس بيكو الجديد»

مع سقوط العاصمة الأفغانية بيد حركة طالبان، وذهول العالم وهم يراقبون المشاهد المروعة القادمة من مطار كابول إثر سقوط أشخاص كانوا متشبثين بعجلات الطائرات العسكرية الأمريكية من الجو، كان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار يتفقد الجدار العازل الذي يجري بناءه على الحدود الإيرانية، بذريعة صد تدفق اللاجئين الأفغان من عبور الحدود الإيرانية إلى الداخل التركي.

بدوره، لم ينتظر أردوغان كثيراً من جهة استغلال أزمة أفغانستان، ومجدداً من خلال تشهير ورقة اللاجئين في وجه الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي، إذ حث الدول الأوروبية على تحمل المسؤولية إزاء المهاجرين القادمين من الأراضي الأفغانية، مشدداً بأنّ تركيا لا تقبل بأن تصبح “مخزن المهاجرين في أوروبا”. وتعهد في الوقت نفسه بوضع “حد تام” لعبور المهاجرين بطريقة غير شرعية، وذلك تماشياً مع المزاج الشعبي المتصاعد في الشارع التركي ضد اللاجئين.

ثمة خيط مشترك صريح بين زيارة خلوصي وتصريحات أردوغان هذه، ولو نسأل كيف ستجري عملية ضبط المهاجرين وفق كلام أردوغان هذه؟ الإجابة : ستكون من خلال زيارة خلوصي آكار وهو يحث بضرورة تسريع بناء الجدار على الحدود مع إيران لمنع تدفق اللاجئين الأفغان، بحكم أن دولته تشيد جداراً إسمنتياً بطول 243 كيلومترا منذ سنوات، حيث تعلوه أسلاك شائكة وتحيط به خنادق. وقد أفاد مسؤولون أتراك بأنه تم بناء حوالي 156 كلم من الجدار حتى الآن.

حتماً هذه التطورات الحاصلة ليست مرهونة بالظروف الذاتية تخضع لمزاجية حكومة اليمين المتطرف في تركيا فقط. ففي حزيران الماضي، أي قبل شهرين، اتخذت المفوضية الأوروبية” المؤسسة التنفيذية” قرار بأن يتم تخصيص 3 مليارات يورو إضافية من ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى عام 2024 لدعم الإجراءات التركية في تقوية إدارة الهجرة ومراقبة الحدود، لا سيما الحدود الشرقية مع إيران. وهي المرة الأولى التي يتم فيها تخصيص التمويل علناً من المفوضية الأوروبية بغية “مراقبة الحدود وبناء الجدار” وذلك كجزء من الجهود لردع اللاجئين والمهاجرين عن القدوم إلى أوروبا. اللافت بأن نص المشروع تجنب تحديد المناطق الحدودية، لكن من المؤكد أنّها تشير إلى بناء الجدران الحدودية مع سوريا والعراق وإيران حسب جريدة غارديان والمعطيات الميدانية، سيما أنّ مشاريع بناء الجدران العازلة الحدودية مع كل من سوريا والعراق وإيران شارفت على الانتهاء.

يأتي هذا القرار الأوروبي بعد موجة الهجرة التي اجتاحت القارة عام 2015-2016، وما استتبع من ذلك، ضغوطات شعبية بين أوساط قاعدة اليمين المتطرف، حيث سارعت الحكومات المحافظة والليبرالية في الحكم عبر المفوضية الأوروبية إلى تبني استراتيجية جديدة تحت يافطة «تحصين أوروبا» انسجاماً مع مزاعم اليمين المتطرف. وبذلك طعنت بصورة صريحة حسب الأمم المتحدة قاعدتين للميثاق العالمي بشأن حقوق اللاجئين: الأولى، الحق في طلب اللجوء والتمتع به جراء مختلف أشكال الاضطهاد. الثانية، تحريم إعادة التوطين إلى مكان الخطر.

مهما يكن من الأمر، سيتفرع من استراتيجية تحصين أوروبا، خطة تفصيلية جديدة على الساحة الدولية تسمى «تخارج الحدود» (border externalization). وحسب منظمة” هيومن رايتس وتش”، فإنها تعني إضفاء الطابع الخارجي على ضوابط الهجرة وإجراءات الدول التي تقع خارج نطاق الاتحاد الأوروبي بهدف منع المهاجرين من دخول الولايات القضائية للبلدان التابعة للاتحاد الأوروبي وجعلها غير مقبولة قانوناً. وتشترط الخطة بإعادة المهاجرين إلى بلدان الجنوب النامية التي وقعت اتفاقيات ثنائية أو ثلاثي أو مع الكتلة الأوروبية عموماً، مقابل توفير الدعم المالي والتقني والأمني لإدارة الأمن أو الهجرة في تلك البلدان، بحيث تملك حرية التصرف في طريقة إعادة توطين اللاجئين قسراً، مستخدمة في ذلك شتى الأساليب الأمنية الممكنة.

بناء على ذلك، فقد أوُكلت الاتحاد الأوروبي- بعيداً عن الضجة الإعلامية- منذ سنوات هذه المهمة الأمنية إلى تركيا بغرض ضبط الحدود وبناء الجدران العازلة، بغية التصدي للمهاجرين القادمين من الدول التي تشهد الحروب الأهلية في وسط آسيا والشرق الأوسط. وفي هذه الحالة، لم يعد الأمر يقتصر على المساعدات الإنسانية، وإنّما توسعت المهمة لتشمل الأبعاد الأمنية بإمتياز، ويشكل بناء الجدران العازلة على طول الحدود التركية الجنوبية والشرقية مع- إيران- العراق- سوريا- من المهام الطارئة على المدى القريب تبعاً للاتحاد الأوروبي. من المفارقة، في الوقت الذي كانت دول الاتحاد الأوروبي مع الوسائل الإعلام الليبرالية تشجب خطة ترامب في بناء الجدار العازل بين المكسيك وأمريكا، كانت تسارع الخطى تزامناً بدفع تركيا من أجل تشيّد جدار الفصل العنصري على الحدود السورية الجنوبية.

ومع ذلك، ثمة اختلافات في وجهات النظر بين المفوضية الأوروبية وتركيا، بحيث تكون مسارات التفاوض مفتوحة للخلافات والمساومات في آن معاً، إذ تسعى المفوضية تحديد نطاق التعاون بهدف ردع المهاجرين الفارين من الفقر والحروب والتغير المناخي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وضمن هذا الإطار على وجه الخصوص، فهي تبدى استعداداتها الدائمة بتوفير التسهيلات إلى تركيا مثل، تسهيل قضية تأشيرات لمواطنين الأتراك والمرونة في الترتيبات الجمركية مع السلع التركية، علاوةً على مواصلة التمويل الإضافي من أجل استكمال بناء الجدران، وقد مثلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للصحفيين عشية إصدار القرار رؤية أوروبا الآداتية المحضة هذه، عندما قالت ” الأمر يتعلق بأموال إضافية تبلغ ثلاثة مليارات يورو”.

تتفق تركيا مع المستشارة الألمانية من جهة زيادة التمويل واحتواء المهاجرين والتسهيلات المقدمة لها، لكنها تحاول فرض المزيد من الشروط الأمنية، وعلى رأسها إجهاض الطموحات الكردية السياسية في المنطقة، بحيث تشرط على الاتحاد الأوروبي بأهمية زيادة حجم التمويل بغرض تسريع بناء الجدران العازلة والمنشآت الأمنية والطرقات الجبلية على الحدود من أجل ضبط المقاومة الكردية وترسيخ التقسيم على طرفي الحدود بصورة أمنية محكمة. وفي الوقت عينه تهدف إلى توسيع المناطق الأمنية خلف الجدران لتكون ملاذاً من أجل بناء مستوطنات جديدة وتوطين اللاجئين السوريين أو ربما من آسيا الوسطى والشرق الأوسط عموماً، وخاصة في ظل تفجير أزمة الهجرة الأفغانية، واستقبالها حوالي 300 ألف لاجئ أفغاني مؤخراً. ويمكن القول إنّ نبرة أردوغان الابتزازية التي تشدد بأنّ تركيا لن تكون “مخزن للمهاجرين في أوروبا” قد تصب في هذا المنحى.

بطبيعية الحال، تستهدف الخطة التركية مناطق ذات الأغلبية الكردية خلف جدران الفصل العنصري، وتشمل عفرين وتل أبيض ورأس العين(سري كانيه)، ولا يخفي الأتراك الكشف عن نواياهم بتوسيع نطاق المشروع إلى باقي المناطق الحدودية في شمال شرق سوريا، ومن المحتمل أن تشمل المناطق التي تقع ضمن نطاق نفوذها العسكري في كردستان العراق على المدى المتوسط، خاصة في ظل مواصلة الضربات الجوية التركية بالطائرات المسيرة ضد المناطق الكردية في كل من سوريا والعراق، بحيث تطغى في نهاية المطاف سياسة التطهير العرقي والتغير الديمغرافي على الواقع مجدداً.

لا تنطوي هذه المقاربة على ما يبدو على أهمية تذكر لدى الدول الأوروبي قياساً بحجم قضية الهجرة واللاجئين. وفي حال تأكدت التصريحات التي أدلى به زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو في وقت سابق بأنّ أردوغان دخل في صفقة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال اجتماعهما الأول في حزيران الماضية مقابل السماح لمليون أفغاني بدخول تركيا، ستكون خطة تمويل الاتحاد الأوروبي مع الضوء الأخضر الأمريكي بمثابة صفقة تبادلية مع أنقرة وبداية لحملة أمنية شاملة ضد المناطق الكردية في سوريا والعراق.

هذا السيناريو لا يندرج ضمن خانة استشراف المستقبل. فعلياً ومنذ سنوات، تشرف مؤسسة الإسكان التركية ظاهرياً على تنفيذ المشروع بالدعم والتمويل من الشركات العالمية التي تتنوع اختصاصاتها بين مجالات الإنتاج العسكري والأمن والتكنولوجيا والبناء، حيث أنجزت هذه المؤسسة في الأعوام الماضية جداراً عازلاً على الحدود السورية- التركية بطول يصل إلى /911/ كلم، وهو ثالث أطول جدار في العالم، بعد سور الصين العظيم والجدار الفاصل بين المكسيك وأمريكا، وتقوم في الوقت الحالي بتشييد بين محافظتي آغري وأغدير على طول الحدود التركية- الإيرانية حوالي /156/ كلم. كما تستعد ببدء تنفيذ جدار جديد على الحدود العراقية- التركية يصل طوله إلى /44/ كلم.

قصارى القول، طالما تخدم هذه المشاريع مساعي أنقرة في تصفية وجود الكرد وإخراجهم من المعادلة السياسية والثقافية من المنطقة، فلن تتردد في استغلال أزمة اللاجئين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى كبوابة لدق آخر مسمار في نعش جغرافية كردستان ومواطنيها. بحيث تتعزز عزلة كردستان التي تجزأت من خلال سياسة الحدود الكلاسيكية بعد اتفاقية سايكس بيكو في القرن الماضي، لتعود وتتجذر هذه المرة من خلال جدار الفصل العنصري المزود بالإسمنت الخرساني وبأحداث أنواع الأسلحة والتكنولوجيا المراقبة والأسلاك الكهربائية الشائكة.

فرهاد حمي /

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك