غرباء يتكئون على وسائد بيتنا في عفرين

أبواب ونوافذ مخلوعة. غرف خالية من الأثاث كما لو أنّها مسكن للأرواح. مكان مترّب لا يدل على هوية ساكنيه إلا الصليب المرمي وسط كومة من الحصى؛ التقطته، ومسحته، وعلّقته على الحائط. ساعدنا جارانا، سركون وزياد، على ترتيب مسكننا الجديد، بعد أن هربنا من قرية ماباتا إثر الهجوم التركي على منطقة عفرين عام 2018. أتذكّر ابتسامتيهما وهما يقولان: “هذا بيتكم الجديد يا فريدة، سننتظر دعوتك لنزوركم يوماً في ماباتا، أليس كذلك؟” سكنتُ قرية تل نصري التي عاشت أهوال عنف داعش، وتحريرها، طوال ثلاثة أشهر عام 2015. احتلال وتحرير يضربان بلادنا كالعواصف، ونحن نغرق في الدموع، ونتأمل صور الضحايا بحسرة العودة والانتظار.

هذا البيت يشبه بيتنا في ماباتا. حتى أهل البيت يحفظون الأجبان في أوعية فخارية خاصة بالمونة، مثلنا تماماً. كانت الأوعية عفنةً، وخالية من الماء بعد تفكيك الألغام. زرعتُ بعض الخضار في الفناء الخلفي للبيت، مكان أوراق الخيار، وأعواد البامية اليابسة. ومع مرور الأيام صرت أفهم القليل من حديثهم باللغة الآشورية.

صدفة، رأيت بيتنا في إحدى قنوات التلفزة، وقد تحوّل إلى مقر لفصيل “الحمزات”. العلم التركي مرفوع على حافة السطح، وراية ترفرف على الفليفلة الحمراء والنعناع التي علّقتها بالخيوط لتجفيفها قبل هروبنا بيومين. ربما يبست أشجار اللوز والفواكه في بستان بيتنا في عفرين. لن يسقيها المحتلون. أحياناً أتحدث عن حزني لجارنا سركون، وعن هيئة الغرباء وهم يتّكئون على وسائدنا، ويعلّقون صور الدخلاء مكان صورنا. أشكو إليه ألمي، وأنا أتخيلهم يلتهمون مؤونة الشتاء. لعلهم يرتدون ملابسنا أيضاً؛ الشروال العفريني لن يليق بهم، ونساؤهم لا يلبسن العباءات السوداء.

أصحاب هذا البيت في تل نصري هُجّروا مثلنا. خسرنا جميعاً كل ما نملك بفعل أعداء لم نسمع بهم. وكل ما فعلوه كان نتيجة ما يُملى عليهم من أوامر. نتشابه نحن والآشوريين من حيث الفجيعة، فكل منا يحفظ في ذاكرته ملامح وحوش دمروا قرانا ونهبوها، وشكل لحاهم الطويلة، وكرههم لأشجارنا، وخضرة قرانا. يجنون محاصيل زيتوننا، ويطبعون أسماء غريبة على علب الزيت، ليبيعوها في محلات أسواقنا المسروقة والمحتلة، أو ليصدّروها إلى دول العالم. ألا يشعر العالم بمذاقه المرّ، أثناء مشاهدة صورنا الموجعة وهي تداهم المواقع الالكترونية؟ ألا توجعهم أحشاؤهم، وهم يطبخون بزيتنا، ويرون على شاشات التلفاز أشجارنا المحروقة ظلماً وبغضاً، تمرّ سريعاً؟ كنا كل صباح نتناول الفطور تحت ظلال أشجار الزيتون. نعتني بالخمسمئة شجرة كأنها شجرة واحدة. نقلّمها بعد موسم البرد والصقيع. نرشّها بمبيدات الحشرات بين شهري آب، وتشرين الأول. صرت أخاف عليها من سقم الشتاء، والطفيليات، ومن أن تتحول إلى عيدان متناثرة، أو حطب يبيعونه بعيداً.

ندمت لحظة خروجي من ماباتا على الرغم من اعتزامي البقاء فيها وسط القصف التركي الذي دام 58 يوماً. 72 طائرة حربية جعلت كل ما يحيط بنا يرتج كالزلزال، كأنّ الأفق أطبق على الأرض، واستعر باللهيب. لم يعد لنا خيار سوى الموت، أو الهروب منه، فهو الطريق الوحيد. وعَدنا أنفسنا بالاحتماء بحيطاننا، لكن الخوف من المجهول كان أشد رعباً من الموت. استسلمنا لخوفنا من فظاعة القنابل المنهالة بلا توقف، وهربنا تاركين شقاء أعمارنا، وذكرياتنا في مهب الاحتلال. نسينا وجودنا هناك في ساعات الفزع، تلك كانت آخر ساعاتي في عفرين. ما زلت أزورها كل يوم في منامي.

إذا تحررت منطقة عفرين، فسأوزع محصول سنة كاملة من الزيتون على الفقراء، وسأخزّن الفستق الحلبي، والجوز، لجيراننا الآشوريين. أما هذا البيت، فلا شيء يشير إلى عودة أصحابه، وها قد زرعت ما كانوا يزرعونه، وأعدت كل شيء كما كان تقريباً. المشكلة أنني أرى نفسي منقسمة بين مكانين، أو بالأحرى ساكنة المكان ذاته في موقعين مختلفين. أتساءل ما إذا كنا سنعود إلى بيوتنا قريباً، لنسقي أشجارنا، ونزرع أشجاراً جديدة تحيا فيها روح ما أحرق منها، وهل سأنشر الغسيل ثانية، وأتذكر ما حصل على أنّه فات ومضى؟

تركنا أرض الزيتون، ومضخة الماء، والجرّار الذي اشتريناه مؤخراً، والسيارة، وثلاثة بيوت، لمسلحين مجانين لا يخضعون لقانون. ما يجعلني أضلّ طريق عودة أسلكها في داخلي كل يوم.

المصدر : شيرين صالح – الرصيف

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك