“الأوراسيون” حينما يقحمون الكرد في خانة “نظرية المؤامرة”

«العملية العسكرية التي يقودها الجيش التركي في عفرين، هي في المقام الأول، ضد النشاط الإرهابي الأمريكي في غرب آسيا، وهي من أجل ذلك، تخدم السلام والإنسانية في العالم».

هذا المقتبس كان يتلوه دوغو برنتشيك، رئيس حزب الوطن التركي، إبان الاجتياح التركي بالتنسيق مع التشكيلات الإسلامية لمدينة عفرين. وفي المقلب الأخر، كانت المنظمات الحقوقية تصنف هذا الهجوم العسكري في خانة التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي. برنتشيك، الذي يعتبر نفسه بمثابة العرّاب للعلاقة الروسية – التركية، يجتر يومياً سردية الإمبريالية الغربية المتوحشة، ويقحم الكرد في سلة مشروع الصهيونية الإسرائيلية الذي يقتضي اجتثاثه من جذوره. الأوراسيون الأتراك ومؤسساتهم المتنوعة يرقصون في الوقت الراهن على هذا الإيقاع الدعائي التعبوي، وهم يقرعون مجدداً، طبول الحرب على أنغام حرق مقاتلي الكرد في خنادقهم وفق تعبير وزير الدفاع خلوصي آكار.

في الحقيقة، يقود أردوغان بنفسه، تصدير هذه الآلية الدعائية بصورة شبه يومية، وذلك بغرض التغطية على الحملة العسكرية التوسعية المنظمة ضد الكرد حيثما ينتشرون جغرافياً. الحاسم في الأمر، هو حصر المشكلة الكردية في “النطاق الأمني المحض”، مع التبرير لهذه الحملة بإطلاق نعوت وصفات مكررة توسم الكرد على أنهم “القاطرة الإمبريالية” وبنادق تحت الطلب لتنفيذ أجندة المشروع الصهيوني الخفي في تقسيم المنطقة عبر بوابة سوريا؛ وهي من هذا المنطلق، تشكل مشكلة وجودية تزعزع الأمن التركي وفق ما يقوله أردوغان.

هذه الحمولة الدعائية الهشة، التي تستحضر نظرية “المؤامرة” في تجريم الذات الكردية كمقدمة تسويغية يُراد من ورائها شرعنة الحملات العسكرية المنظمة ضد الكرد، ليست بأمر جديد؛ لكن الخطورة لا تكمن في هذا النطاق، بل في نطاقها الدولي، وتحديداً حينما يتقاسم المطبخ الروسي الاستراتيجي هذه الفطيرة المسمومة – نظرية المؤامرة- كنافذة لقراءة الأحداث السياسية في شرقي الفرات.

تثوير المؤامرة

ألكسندر دوغين، الذي يُعرف بالجيوستراتيجي الروسي ودماغ بوتين، كتب مقالة في 17 يوليو الماضي بعنوان “إدلب.. والجيوسياسة التركية” التي يستحسن الوقوف على محتواها بشكل تفصيلي كونها تحمل دلالات خطيرة، يوبِّخ دوغين فيها العقل التركي الحاكم ويذكّره بوجوب إزالة العثرات القائمة أمام الصراع الدائر في إدلب بين المجموعات الإسلامية التابعة لتركيا والحكومة السورية، بحيث يكون الحل المقترح هو صيغة “عودة المسلحين إلى حضن الوطن”، بغية تقوية محور أوراسيا بين كل من تركيا، وإيران، والنظام السوري، والروس.

دوغين سيكون أكثر صراحة في الكشف عن أوراقه، وهو يحاول إقناع السلطة الحاكمة في تركيا. إذ يدعّم طروحاته عبر التلويح بـ”الهستيرية الكردية” التي تقوض الأمن التركي حسب زعمه، ما يستدعي تالياً الإسراع دون التسويف والمماطلة في إنهاء ملف إدلب، كي يتفرغ المحور الأوراسي الإنساني في مجابهة المحور الأطلسي الشرير في شرقي الفرات. وتبعاً لدوغين فإن أردوغان نفسه تبنى في سوتشي وآستانا “الاستراتيجية المضادة” للنفوذ “الأمريكي- الإسرائيلي” في شرقي الفرات، طالما كانت الأولوية التركية الأمنية تنصب في محو الوجود الكردي من الشريط الحدودي الشمالي.

يجد دوغين في الارتماء إلى حضن نظرية المؤامرة فضائه المتخيل والخصب، حيث يضرب على وتر تدليس الرأي العام وتسطيح الوعي الجمعي في تركيا عبر استثمار سيكولوجية الاستقطاب السياسي المضطرب هناك، وذلك من خلال التذكير ببعض الخرائط الجغرافية التقسيمية للشرق الأوسط (كتلك الخريطة التي نشرها الضابط الأمريكي المتقاعد “رالف بيترز” عام 2006، الذي يدعو إلى “تصحيح الحدود الخاطئة” في الشرق الأوسط)، متجاهلاً في الوقت نفسه بأن العالم برمته كان شاهداً قبل عامين على مدى رفض الإدارة الأمريكية لأي جنوح كردي صوب الاستقلال إبان الاستفتاء الذي جرى في كردستان العراق، ناهيك عن أن الإدارة الأمريكية بكل فروعها ترفض الخروج عن ميراث الحدود القومية التي أورثتها المنطقة من التفاهمات الإنكليزية- الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى. طبعاً الأمر ذاته ينطبق على الحالة السورية أيضا.

هيسترية سيفر

دوغين، الذي يتابع عن قرب مدى تهويل خطاب معاداة السامية- الغربية وسط الكتلة الإسلامية والقومية المتطرفة في تركيا، يقحم فجأة وبدون أي دليل مادي ملموس ومنطقي، الكرد في سوريا تحت الوصاية الإسرائيلية، ويعتبر الأسلحة، التي يقدمها التحالف الدولي لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، على أنها محاولات إسرائيلية- أمريكية بغرض تقسيم تركيا. هذه الإسقاطات المتوهمة تدغدغ اللاوعي الجمعي بين النخب الحاكمة في تركيا، وتعزز من فرضيتهم بالتهرب من مسؤولية حل القضية الكردية، كونها مؤامرة سحرية من صناعة القوى الشريرة في العالم، وهنا تحديداً سيتقاطع خطاب المحور الأوراسي التركي الذي يتكئ على إرهاب “عقدة سيفر” مع نظرية المؤامرة لدى دوغين. وعلى هذا المنوال يطرح دوغين نفسه بمثابة الناطق الروسي الرسمي لترويج هيسترية (برنتشيك- باهجلي- أردوغان).

ما يسعى دوغين إلى تمريره للعقل الحاكم في تركيا، هو إثارة “فوبيا إسرائيل الثانية” في شرقي الفرات. هذه النظرية التعويضية والترميزية المترسخة في خطاب النخب الحاكمة في الشرق الأوسط، لا سيما إثر فشلها في النظر إلى القضية الكردية بصورة عقلانية، تهدف في العمق إلى إنكار هوية الكرد، وإزالتهم من الوجود كضرورة حتمية لمعالجة الفوبيا المتشكلة، وذلك عبر إخراج الكرد من موقع مكافحة التطرف في سوريا، الذي يضرب العالم برمته، إلى مؤامرة مدبرة تدار من قبل الصهيونية العالمية. وهذا يؤكد ما يقوله، مؤسس مدرسة فرانكفورت النقدية، ماكس هوركمارير، على أن “العقل التسلطي المتعالي بحاجة مستمرة إلى عدو متخيل يعيد إنتاجه من خلال آليات دفاعية- انعكاسية متوهمة”.

والحال هذا، إذاً ما هو الحل المقترح من قبل الكسندر دوغين في التعاطي مع الإشكالية الكردية في سوريا؟ في الواقع، يواصل دوغين في شيطنة الكرد عبر ضخ مخزون من عبارات دعائية سمجة، ويشدد في متن المقال بأن: “الكرد يرفضون الحوار مع النظام في دمشق، ولديهم نزعة عدائية تجاه تركيا، كما أنهم يحكمون قبضتهم على المناطق العربية، ويملكون أجندة سياسية جديدة وخفية، ويتحركون تحت المشاورة الأمريكية- الإسرائيلية بصورة مطلقة”. دوغين، الذي يميز ذاته على أنه فيلسوف ما بعد الحداثة (حسب زعمه)، ويحترم سياسة الهويات بالضد من النزعة الليبرالية التي ترفض التنوع والاختلاف القومي، يريد أن يختزل رؤيته التلفيقية، بأن نموذج عفرين هو الحل الروسي الوحيد الأوحد، سيما أن دمشق وموسكو مع طهران وأنقرة رفضوا قبل أسابيع أي صياغة لامركزية في شرقي الفرات، وذلك في مستهل بيانهم الختامي الذي نشر في اجتماع آستانا الأخير.

سرديات المؤامرة

في الحقيقة، حينما يتناغم العقل الروسي – التركي في تكوين نظرية المؤامرة القائمة على معاداة السامية والإمبريالية الغربية وشيطنة الكرد، من المؤكد أن الحكايات والسرديات التي تخرج من هذا المطبخ ستكون بمثابة سخرية تنطوي على كسوف العقل؛ ويجدر في هذا السياق تسليط الضوء، ولو بعجالة، على الكم الهائل من الحملات اليومية التي تُخترع في المطبخ الإيديولوجي التركي، وتظهرُ في الخطابات السياسية والإعلامية بغرض التمويه على حملات التوسع والتطهير صوب الداخل والخارج معاً، والعجز البنيوي في معالجة القضايا بصورة عقلانية.

ترتكز فرضية دعاية الأوراسيون الأتراك على معاداة الصهيونية العالمية، وإسرائيل، والإمبريالية الأمريكية، بحيث يقف هذا الثالوث خلف كل التحديات التي تواجه تركيا. فعلى سبيل المثال، زعم المدعو “صلاح الدين اونكيبار” في صحيفة “أيدلنك” التابعة لمنظومة دوغو برنتشيك الإعلامية، بأن الرئيس الأمريكي السابق جون كيندي اغتيل على يد الدوائر اليهودية الحاكمة في البنك الفيدرالي الأمريكي. في حين يُبرز “يغيت بولات” مستشار أردوغان الرئيسي في سلسلة من مقالاته دور الحكومة اليهودية الخفية في إدارة العالم، إذ يحمّل مسؤولية النكسة العثمانية على مشارف أبواب فيينا، وتقليص الدور التركي طيلة القرن العشرين لهذا الشيطان “الحكومة الخفية في العالم”.

وبموازاة ذلك، سيشير أردوغان بأصبعه نحو الملياردير الأمريكي، ذو الأصول اليهودية، “جورج سوروس”، ويتهمه بالوقوف وراء المأزق الاقتصادي الراهن الذي تعيشه تركيا، في الوقت الذي سيدون “جتين آكار”، وهو رجل كلف من قبل فريق أردوغان على تقديم شهاداته أمام لجنة القضاة في قضية الانقلاب الفاشل، بتدوين حوالي 200 صفحة وفق موقع “نورديك مونيتور”، يدّعي فيها أن مناصري الحاخام اليهودي “سيباتاي تسفي”، الذي كان يعيش في قلب الدولة العثمانية، يحبكون المؤامرات ضد الترك منذ القدم، وأن العقل اليهودي في واشنطن بالتنسيق مع غالبية رجال الأعمال غير المسلمين في تركيا يحفرون قبر الكيان الإسلامي في تركيا. كما راح آكار في كتابه إلى اتهام اليهود الأمريكيين بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016، وكذلك مساندتهم لحزب العمال الكردستاني (PKK) وقوات سوريا الديمقراطية.

وعليه، لن يبخل دوغو برنتشيك بدوره في طرح رؤيته لنظرية المؤامرة، إذ يرصد الحالة الكردية من خلال ورقة بحثية طويلة، ويستنتج بجرة القلم بتوصيف كل من جلال الطالباني – ومسعود البرزاني- وأوجلان، على أنهم من بناة المؤامرة اليهودية- الأمريكية، ووفقا لذلك يلزم مجابهة الحالة الكردية بنوع من سياسات الإبادة والقوة.

في الواقع، يخفي الخطاب الأوراسي بشقيه الروسي- التركي فيضاً من حمولة الكراهية والعدائية ضد الجماعات، التي لا تمتثل لحساباتهم الاستراتيجية والمرحلية، ومدينة عفرين الكردية كانت ضحية هذه المقاربة التضليلية. هذا الخطاب المؤامراتي، وفق ما استخلصه “تيودور أدورنو” في تحليله لبنية الإيديولوجية النازية، ينمّي حالة عدائية مزمنة تقود في النهاية إلى تفريغ شحناتها المرضية على أشخاص آخرين، الذين غالباً ما يتم اختيارهم (كقاعدة عامة) من جماعات أثنية أو دينية أو طائفية أو حتى أحزاب ومنظمات سياسية كمواضيع للهجوم والإبادة.

المصدر: فرهاد حمي

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك