تركيا تحاول إحياء التراث العثماني في سوريا.. وتعيد فتح حلقات "الكتّاب"

يلتفُّ الأطفال حول معلمهم داخل مسجد في شمالي حلب، يرددون وراءه آية من القرآن في حين يتبادلون الابتسامات إذا ما نطق أحدهم كلمة بطريقة غير سليمة أو أخطأ في التسميع. يتعلمون إلى جانب القرآن مبادئ اللغة العربية مع التركيز على مخارج الحروف.

حلقات دينية اسمها «الكتّاب»، انتشرت مؤخراً في بعض المساجد السورية بدعم من الوقف التركي، تشرف عليها مكاتب الإفتاء في كل مدينة.

فبعد طي صفحة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في الريف الشمالي لحلب مطلع عام 2017، والتي انتهت بمعركة «درع الفرات»، التي خاضها الجيش التركي بمشاركة فصائل سورية موالية بدأت المؤسسات الخدمية والتعليمية تعود للعمل في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة التنظيم ولكن بواقع جديد وسياسية ومنهجية خاصة تركز أساسا على إعادة إحياء العثمانية ونشر الثقافة والتاريخ واللغة التركية لتثبيت النفوذ التركي في تلك المنطقة مع دعم الاقلية التركمانية .

اهتمت المؤسسات الدينية على إعادة تأهيل الأطفال، من نواحٍ توعوية وأخرى فكرية، لتهيئة الجيل الجديد بفكر يتقبل تركيا وثقافتها، وتغيير النظرة النمطية التي تصور الحقبة العثمانية كاحتلال.

“وقف الديانة التركي” خلال عام فقط تمكنت من ترميم واعادة تأهيل حوالي 108 مسجد في مناطق: جرابلس، الباب، اعزاز وجوبان باي (الراعي)، وليشرف عليها بشكل مباشر عن طريق مكاتب الإفتاء في كل مدينة أو منطقة.

عشرات الحلقات، والبداية من نطق الحروف
يسير محمد (21 عاماً)، إلى المسجد في الحي الذي يُقيم به، ليبدأ تدريس حلقة اليوم. أنشأ محمد هذه الحلقة حديثاً بعدما حصل على إجازة لتدريسها.

يوجد في المسجد 10 حلقات تعليمية، يدرسون فيها مبادئ القراءة العربية ثم تلاوة القرآن وحفظه.

يتحلَّق حول محمد 20 طالباً، والتمس من الشهور الأولى تقدُّماً ملحوظاً لدى الطلبة، علماً أن أكثر من نصف الأطفال استطاعوا اجتياز المرحلة الأولى من التعليم؛ وهي تعلُّم نطق الحروف ومخارجها، عبر كتاب «فتح الرحمن» أو «الرشيدي»، وانتقلوا إلى مدرّس آخر.

ويقول محمد إن أهالي المدينة في مارع (35 كم شمالي حلب) تقبَّلوا هذه الفكرة التعليمية بكل ترحيب، فهم يتفقدون تطوُّر مستوى أولادهم بشكل أسبوعي؛ للاطلاع على مستواهم الدراسي، وليكوّنوا فكرة عن ماهية التعليم الذي يتلقاه أبناؤهم.

قال مدير مكتب المراقبة والتقييم في دار الإفتاء بمدينة مارع، الشيخ علي الخطيب، لـ”عربي بوست»” «بدأت العمل في الكُتاب منذ عام وأكثر، وفكرة وجود هذه الحلقات قديمة، قبل إشراف تركيا عليها، ولكنَّ وقف الديانة التركي أعطاها أهمية كبيرة نتيجة التعليم الذي تقدمه في المجتمع». ويعد الكتّاب الآن أحد المراكز التعليمية المستمرة في العُطل الصيفية للمدارس الرسمية العامة. كما كان يحظى سابقاً بإشراف هيئات إسلامية سورية عدة، من بينها رابطة العلماء السوريين، وهيئة الشام الإسلامية، ومجمع سلطان العلماء، ومؤسسة نور، إضافة إلى مؤسسة جيل القرآن.

نشطت هذه المنظمات في مناطق السيطرة التركية بشكل كبير كجزء مكمل لسياسة تركيا في الغزو الثقافي واستغلال الدين في التوغل في المجتمعات المحلية السورية.
تنشط هذه المؤسسات التعليمية في محافظة إدلب وريفي حلب الغربي والجنوبي، ولكنها لا تحظى بالاهتمام الذي نالته في مناطق درع الفرات. ولا تزال كل من رابطة العلماء السوريين ومؤسسة نور ومؤسسة جيل القرآن نشطة في ريفي حلب الشمالي والشرقي، إلى جانب وقف الديانة التركي. وأضاف الخطيب أن المنهاج الذي يدرّس في حلقات القرآن «الكُّتاب» يعتمد على عدة كتب؛ منها «فتح الرحمن في تعليم لغة القرآن»، يتعلم فيه الطفل مبادئ القراءة في القرآن الكريم، ثم ينتقل المتعلم إلى مرحلة «السَّفَرة» وهي اتقان تلاوة القرآن على الحاضر، حتى يحصل على «إجازة ضبط» وتليها مرحلة «الماهر» وهي إجازة في تلاوة القرآن غيباً.

ويصاحب هذا المنهاج عدد من الكتب؛ منها كتاب «إتقان ديني»، وكتاب في العقيدة يسمى «عقيدتنا»، والأخلاق يدعى «أخلاقنا»، والسيرة، وكُتيب «إسلامنا»، وعلاوة على ذلك يدرس كتاب الفقه المنهجي للإمام الشافعي؛ وذلك نظراً إلى مذهب المنطقة بشكل عام. تستهدف حلقات المساجد «الكتّاب» الأطفال من عمر 6 سنوات حتى الـ12، وحلقات اليافعين تضم من الـ12 حتى الـ18، كما تستقبل الحلقات من الـ18 حتى الـ40، من الذكور والإناث، وتختلف معاملتهم عن معاملة الأطفال، في حين أُنشئت بعض الحلقات حديثاً لاستقابل أعداد من النساء المتقدمات في السن، ويعد تدريسهم صعباً جداً؛ لعدم معرفتهم القراءة مسبقاً، وخلال فترة وجيزة توسعت هذه الفكرة في مساجد المنطقة كافة، لتعد لاحقاً كتعليم محو الأمية.

إعادة إحياء الكتّاب من عهد الدولة العثمانية تلت إحياء المساجد
وأتت خطوة تنظيم «الكتّاب» بعد أن أعاد وقف الديانة التركي تأهيل المساجد كافة في المدن الكبيرة بمناطق درع الفرات في كل من الباب وجرابلس وإعزاز وصوران وأخترين ومارع، ثم ستليها القرى والبلدات الصغيرة في المنطقة، حيث بلغ عدد المساجد التي يوجد فيها الكتّاب 250 مسجداً، في المنطقة. ووُجدت فكرة تعليم الحلقات في المساجد سابقاً باسم «الكُتاب»، وتعد أقدم في تاريخها الإسلامي أكثر من المدارس، حيث كانت قد استُخدمت في العصور الإسلامية كافة حتى جاء عهد الدولة العثمانية التي أعطتها أهمية بالغة في تلك الفترة، واقتصرت آنذاك على بعض المساجد لقلَّتها، وكانت هي المراكز الوحيدة في تعليم اللغة العربية، ثم بَنَت الدولة العثمانية المدارس في المدن الكبرى فقط؛ لما تحتويه من تضخم سكاني، واقتصر التعليم فيها على اللغة التركية، وكان ذلك في نهاية عهدها تقريباً.

وتركيا تحاول استعادة وقْفها ما قبل أتاتورك
وفي العصر الحالي، كشفت الحكومة التركية عن وثائق للوقف العثماني، كان قد تبرع بها آنذاك أهالي المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، خُصص الكثير منها لخدمة المساجد. ونتيجة الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)، تقهقرت الدولة العثمانية وانتهت في عهد السلطان محمد السادس. ثم ألغى مصطفى كمال أتاتورك الخلافة تماماً في 1924، بعد ظهور الحركة القومية. وانتقلت تركيا من السلطنة إلى النظام الجمهوري، وتمكن أتاتورك من إرساء نظام علماني في البلاد، متأثراً بالعادات الأوروبية ومتطلعاً إلى إلحاق الجمهورية بأوروبا، فاستبدل بالأحرف العربية الأحرف اللاتينية، ونتيجة ذلك هُمشت الأوقاف داخل البلاد التركية وخارجها. ومن جانبه، أعاد وقف الديانة التركي، التابع لوزارة الشؤون الدينية التركية، هذه الأوقاف العثمانية لبناء المساجد داخل تركيا، وحتى خارجها في مناطق درع الفرات وعدد من الدول العربية مثل السودان ولبنان والصومال والأردن. ودعم الوقف التركي حلقات تعليم القرآن والقائمين عليها مالياً من الأوقاف العثمانية الموجودة داخل تركيا فقط.

وغياب التعليم فتح الباب لهذه الحلقات وسط شعب متعطّش للعلم
واكتسبت مراكز «الكتّاب» في منطقة درع الفرات القِيمة الرمزية والعلمية والفكرية، نتيجة افتقار المنطقة إلى سنوات عدة للتعليم، فأصبحت بمثابة تقوية علمية ودينية فقهية مستمرة على مدار العام. وباتت ترافق التعليم المدرسي؛. ولم تقتصر هذه المراكز على درع الفرات، وإنما يَدرسُ الأطفال السوريون في مخيمات اللاجئين بتركيا في هذه الحلقات، منذ سنوات عدة. 

https://bit.ly/2AfXCR4