هياكل الحكم التي نصبتهم تركيا لحكم عفرين بالوكالة

حُكِمَت مقاطعة عفرين، من بداية العام ٢٠١٤ حتى عملية “غصن الزيتون”، وفقًا لقواعد الإدارة الذاتية، فأحُدِثَت فيها ١٧ بلدية سُمّيَت بلديات “الشعب”، ومجلس تنفيذي ضم 14 هيئة بمثابة حكومة تدير المنطقة، الى جانب مجلس تشريعي وشكّلت الكومينات في الأحياء والقرى الحلقةَ الأخيرةَ في سلسلة الإدارة الذاتية.

دفعت معركة عفرين معظم العاملين في مؤسسات الإدارة الذاتية إلى الفرار، في حين تعرّض مَن قرّر البقاء للاعتقال. فضلاً عن ذلك، فُكّكَت تركيا على الفور كافة المؤسسات المحلية، لتحلّ محلّها هياكل جديدة تحت إدارتها المباشرة كما والحقت المدينة بولاية هاتي/ اسكندرون.

وعمدت تركيا، حتى قبل إعلان النصر العسكري، إلى دعم رابطة المستقلين الكرد بعقدها مؤتمر سماه ب مؤتمر “إنقاذ عفرين” في مدينة غازي عنتاب التركية، في ١٨ آذار ٢٠١٨، من أجل تشكيل إدارةٍ محليةٍ جديدةٍ عوضاً عن الإدارة الذاتية الكردية. أشرف والي غازي عنتاب على المؤتمر مقدّماً له التسهيلات، والتمويل فيما اقتصر الحضور على شخصيات كردية وعربية وعلوية ويزيدية موالين لتركيا. وقد غاب عن المؤتمر كلٌّ من المجلس الوطني الكردي بسبب موقفه الرافض للعملية العسكرية، والناشطون الشباب المستقلّون، والشخصيات الثقافية الأمر الذي افقده الشرعية.

انتخب مؤتمر “إنقاذ عفرين” ٣٥ شخصيةً شكّلت مجلس مدينة عفرين المحلي، ثم أنشأت تركيا هيئةً عامةً للمجالس المحلية في كامل منطقة عفرين، في ١٠ نيسان ٢٠١٨، ضمّت شخصياتٍ غير معروفة الا بولائها لتركيا. ووسّعت أنقرة الهيئة العامة للمجالس المحلية لتضمّ ١٠٧ أعضاء، مئةٌ منهم رجال و٧ نساء. وغابت السيدات عن تشكيلات المجالس المحلية في مدن جنديرس، وراجو، وشيخ الحديد، حيث ضمّت مجالس مدن عفرين، وبلبل، ومعبطلي امرأتين، والمجلس المحلي لشران امرأة واحدة.

الواقع أن التمثيل لم يُراعِ المكوّنات الحقيقية. في مجلس مدينة عفرين الذي تم منح العرب نسبةٍ كبيرةٍ من المقاعد تتخطّى تمثيلهم الحقيقي. فوجودهم في المدينة يقتصر على بعض قرى مجرى نهر عفرين، وهم من عشيرة البوبنا، ومع ذلك حصلوا على ٨ مقاعد أي ما يتخطّى نسبتهم في عفرين. في المقابل، حظي الأكراد على ١١ مقعداً لمستقلّين محسوبين على تركيا لا تاريخ سياسياً لهم، والتركمان على مقعدٍ واحدٍ بالرغم من عدم وجودهم الفعلي في منطقة عفرين. وقد أُعطي هذا المقعد لشخص عربي مقرّب من أنقرة يحمل الجنسية التركية، هو الطبيب أحمد حاجي حسن، الذي يدير المكتب الطبي في معبر باب السلامة.

أما التمثيل الأقرب إلى الواقع المحلي عدديا فهو في مجلس جنديرس الذي شُكّل لاحقاً (في ٢٠ نيسان ٢٠١٩)، إذ يتكوّن المجلس هذا الأخير من ١٥ عضواً، بينهم ١٢ عضواً كردياً من الموالين لتركيا، و٤ أعضاء عرب.

وتشرف ولاية هاتاي التركية بشكلٍ مباشرٍ على المجالس المحلية في منطقة عفرين، عبر ولاة مناطق أتراك وفقاً للتقسيم الأمني (والي عفرين، ووالي راجو، ووالي جنديرس). هؤلاء يمثّلون والي هاتاي في مناطقهم، وكلّ واحد منهم يتحكّم بالمجالس المحلية في قطاعه.

وصحيح أن المجالس المحلية تتبع الحكومة السورية المؤقّتة، إلا أنها تتلقّى أوامرها التنفيذية من الجانب التركي بشكلٍ مباشر. وهذا ما أكّده رئيس مجلس عفرين، المهندس سعيد سليمان، في لقاءٍ مع صحيفة حبر حول طبيعة العلاقة مع الحكومة السورية المؤقّتة، وما يتّفق مع شهادة أحد أعضاء المجلس المحلي في عفرين بأن تركيا هي مَن يشرف على التنسيق والخطط التنفيذية، في ظلّ غياب أيّ دورٍ أو وجودٍ في عفرين للحكومة المؤقّتة، التي منعتها أنقرة من فتح مكاتبها هناك.

تتلقّى المجالس المحلية في منطقة عفرين مخصّصاتٍ ماليةً شهريةً من تركيا عبر والي هاتاي، على غرار نظيراتها في منطقة “درع الفرات”، وهي أموال عائدات المعابر الحدودية التي توزّعها تركيا أيضاً على الجيش الوطني.

بيد أن تركيا قامت بسلسلة اعتقالاتٍ شملت مدنيين كانوا يعملون في الإدارة المدنية والمؤسسات التابعة لها، ولا انتماء سياسياً لهم. هذا ولم تقتصر اعتقالاتها على المتّهمين بالانتماء الى الإدارة الذاتية، بل طالت أيضاً أعضاء في المجالس المحلية أنفسهم. فاعتقلت رئيس المجلس المحلي في عفرين، زهير حيدر، وأعفته من مهامه في أيلول ٢٠١٨. كما قُتِل تحت التعذيب نائب رئيس مجلس ناحية الشيخ حديد، أحمد شيخو، على يد عناصر فصيل سليمان شاه، في ١٢ آب ٢٠١٨، بعد بضعة أيام من اعتقاله، وذلك بسبب طلبه إعادة بعض البيوت المُستولى عليها إلى أصحابها. كما اعتقلت الشرطة العسكرية في جنديرس مطلع أيار ٢٠١٩، عضو المجلس المحلي، جيكرخون إسماعيل، وسلّمته إلى المخابرات التركية من دون معرفة سبب اعتقاله، واجبر اخرون على الاستقالة تحت تهديد الاعتقال، كما وتم اقتحام مجلس شيه من قبل فصيل العمشات عدة مرات.

لقد أدّت مطاردة كلّ العاملين السابقين في الإدارة الذاتية في مقاطعة عفرين، والتضييق على أعضاء المجلس الوطني الكردي واعتقالهم، واعتقال أعضاء في المجالس المحلية الموالية أساساً لتركيا، لانتقادهم سلوك الفصائل او الاعتراض على بعض السلوكيات اليومية، إلى إقصاء الأطراف الفاعلة السياسية المعروفة، وتشكّل طبقة سياسية كردية جديدة قائمة على الزبائية، ومُلحَقة بشكلٍ مباشرٍ بتركيا، تستفيد من حمايتها، ومن غياب المنافسين. وقد برزت في هذه الطبقة شخصياتٌ غير معروفةٍ في المشهد الكردي في عفرين، أمثال سعيد سليمان، رئيس المجلس المحلي الحالي في مدينة عفرين، وحسين مصطفى، نائب رئيس مؤتمر إنقاذ عفرين، والطبيب أحمد حاجي حسن، رئيس المكتب الطبي في مجلس مدينة عفرين، وهو عربي حاصل على الجنسية التركية، إضافةً إلى عبد الناصر حسو، رئيس غرفة صناعة وتجارة عفرين، وهو تركماني حاصل على الجنسية التركية؛ وهذا ما يشي بأن الارتباط بالقرار الأمني التركي أصبح كبيراً للغاية. زِد على ذلك أن سياسة تركيا تعزّزت بتكريس دور التركمان في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، عبر تعيين التركماني عبد الرحمن مصطفى، رئيساً للحكومة المؤقّتة في ٢٧ حزيران ٢٠١٩، ما من شأنه أن يسرّع عملية تتريك منطقتَي “درع الفرات” وعفرين.

وعمدت تركيا إلى ضبط الأمن، وتوفير الخدمات مثل الصحة والإغاثة والتعليم والمياه، محاولةً تأمين كهرباء دائمة في عفرين، كما فعلت في مدينتَي الباب وأعزاز. كذلك سَعَت إلى ربط مصائر المدنيين بالخدمات الأساسية كالأغذية، التي قدّمتها المؤسسات الإغاثية والصحية، وإلى تحقيق استقرارٍ على المستوى التعليمي، عبر ترميم المدارس، وإيجاد فرصٍ للدراسة الجامعية، على غرار ما فعلت في منطقتَي “درع الفرات” وإدلب، وقبول الطلاب في الجامعات التركية.

وقد أشرفت تركيا بشكلٍ مباشرٍ على السلطات الخدمية، التي انحصرت بيد المجالس المحلية المُوالية لأنقرة، فيما بقي دور الحكومة السورية المؤقّتة دوراً شكلياً للغاية في هذا المجال.

على الصعيد الأمني، وُضِعَت قوات الشرطة والأمن العام الوطني تحت إشراف المجالس المحلية شكليا، التي تعمل كسلطةٍ تنفيذيةٍ تنظّم الأمور الإجرائية فقط. فتتولّى مثلاً ضبط مخالفات السير، وفرض الغرامات، وجباية الرسوم، كتلك المفروضة على المحاصيل الزراعية، علماً أن الضرائب تعود إلى صندوق المجلس المحلي بعد أن تجمعها الشرطة. أما في القضايا الجنائية، فتحوّل الشرطة الجناة إلى المحاكم المدنية التي عيّنتها تركيا وتتبع لها إدارياً، وإن كانت مستقلّةً إلى حدّ ما. تعمل هذه المحاكم بـ”القانون العربي الموحّد”، ويرأسها قضاة وليس مشايخ على غرار المحاكم الشرعية.

فضلاً عن ذلك، تضطّلع السلطات التركية بدور الوسيط بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات الإنسانية والإغاثية وما تقدّمه من مساعدات، وبين المجالس وما تحتاج إليه. فتنسّق وكالة الكوارث والطوارىء التركية “آفاد” (AFAD) العمل الإغاثي بمجمله في منطقة عفرين، مع العلم أن المؤسسات الإغاثية تحتاج دائماً إلى موافقة “آفاد” قبل توزيع أيّ سلّةٍ إغاثيةٍ في عفرين، حيث تؤدّي “آفاد” دوراً تنسيقيّاً ما بين المنظمات والمجالس المحلية لتغطية الاحتياجات. ومن المنظمات الأخرى التي تنشط في المنطقة هيئة الإغاثة الإنسانية التركية [IHH]، والهلال الأحمر التركي، وعددٌ من المنظمات الإنسانية التركية، مثل حياة وأطباء عبر القارات التركية، وهي تعمل جميعها في القطاعَين الطبي والإنساني.

أما المنظمات الإنسانية السورية فتعمل تحت إشراف تركي مباشر. فعلى سبيل المثال، تحظى منظمة الأمين التي تعمل في قطاعات الصحة والإغاثة والتعليم، بمكانةٍ خاصةٍ لدى تركيا من بين المنظمات الإنسانية الأخرى في عفرين، تليها منظمات بهار، وسامز، والخير، والمنظمة الدولية للإغاثة، والأيادي البيضاء، وإحسان، وهيئة الإغاثة الإنسانية في المرتبة الثانية.

في القطاع الطبّي، تشرف مديرية الصحة في ولاية هاتاي على المنظمات الطبية كافة العاملة في عفرين، وتمنح تراخيص المستشفيات والنقاط الطبية والمستوصفات. كذلك رمّمت تركيا عبر مديرية الصحة في هاتاي مستشفى عفرين الكبير، وشغّلته بشكل مباشر، وعيّنت على رأسه مديراً تركياً، وهي تدفع رواتب العاملين فيه.

وفي قطاع التعليم، ألغت السلطات التركية العمل بالمنهاج الذي وضعته الإدارة الذاتية، وفرضت منهاج وزارة التربية في الحكومة المؤقّتة، مُضيفةً إليه كتابين لتعليم اللغة التركية. هذا وتشرف مديرية التربية والتعليم في ولاية هاتاي على المكاتب التعليمية في المجالس المحلية، وتدفع هذه الأخيرة رواتب المعلّمين والعاملين في قطاع التعليم. وتقوم منظمة الأمين بدفع ثلثَي راتب المعلّمين، والبالغ ١٥٠٠ ليرة تركية، فيما تتكفّل تركيا بدفع الثلث من واردات المعابر.

أما في مجال الكهرباء، فتعمل تركيا على ترميم الشبكة لإعادة التيار الكهربائي عبر مولّداتٍ ضخمة، كما فعلت في مدينتَي أعزاز والباب حيث عهدت بتشغيل المولّدات إلى شركتَي الطاقة التركيّتَين ET Energy وAK energy Ltdşti، اللتين نجحتا في توفير الكهرباء بشكلٍ دائم. ويجري العمل حالياً على توفير التيار الكهربائي في مدينة جرابلس بالطريقة نفسها، كما يُتوقَّع تزويد مدينة عفرين بكهرباء دائمة في آب ٢٠١٩، وإن لم يُعلَن حتى الآن عن الشركة التركية المُستثمِرة في عفرين.

لا شكّ في أن توفير الخدمات وزيادة فرص العمل سيجعلان المدنيين الأكراد والمهجّرين العرب مُلحَقين إلى حدّ كبير بالمؤسسات الخدمية، ويرهن مصائرهم بالرضا والولاء التركيَّين.

الواقع أن تركيا نجحت، بالمقارنة مع “درع الفرات”، في بسط سيطرتها على عددٍ من المجالس، ولا سيما المجالس الكبرى، ومع ذلك لا تزال تلاقي اعتراضاً كبيراً على بعض قراراتها وأفعالها، بسببب وجود حاضنةٍ مؤيّدةٍ للثورة تنظر إلى الدور التركي بكثيرٍ من الريبة. ويتقاطع واقع هياكل الحكم المحلي في عفرين ومنطقة “درع الفرات”، مع رفض تركيا اضطّلاع الحكومة المؤقّتة التابعة للمعارضة بأيّ دور سياسي فعلي، إذ تفضّل أنقرة إدارة المنطقة بيدها بناءً على التفاهمات مع روسيا، التي اشترطت منع قيام مؤسساتٍ تابعةٍ للمعارضة في أماكن سيطرة القوات التركية.
المصدر

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك