شمال سورية يأتي بـ «دويلة» أو بحلّ سياسي؟

في مؤتمر ميونيخ للأمن وصف وزير الخارجية الفرنسي السياسة الأميركية في شمالي سورية بأنها «لغز»، وحين يأتي ذلك على لسان عضو في التحالف الدولي له هو الآخر قوات على الأرض، فليس فيه أي مبالغة. ذاك أن واشنطن لم تستطع بل لم تسعَ إلى جلاء أهدافها، سواء كانت تخطّط لسحب كلّ قواتها من تلك المنطقة أو لإبقاء عدد رمزي من العسكريين والمعدّات للدلالة إلى «وجود سياسي» دائم. وما زاد اللغز تعقيداً أن جميع اللاعبين على الأرض السورية لم يتلقّوا أي إيضاحات من الإدارة الأميركية، سواء من «الحلفاء» كالأتراك وخصومهم الأكراد أو من الخصوم والأعداء كالروس والإيرانيين بالإضافة إلى النظام السوري، أما الإسرائيليون فيبدو أنهم وحدهم مَن يعرفون «السرّ» ولم يثير أي أمر لديهم، كونهم ينسّقون مع الاميركيين والروس في آن.

لكن، مع انتهاء مؤتمر ميونيخ، كان بعض معالم السياسة الأميركية قد اتضحت، الأمريكيون لن ينسحبوا لمصلحة أي من الأطراف بل يعتقدون أن «ظلّهم» سيكون كافياً لإبقاء «إقليم شمال سورية» خارج سيطرة روسيا وحلفائها، وربما يستعينون بقوات فرنسية وبريطانية من التحالف سواء لطمأنة الأكراد وحمايتهم أو لحراسة التركة الأميركية نظراً إلى أهميتها الاستراتيجية بالنسبة إلى ضمانات الحل السياسي في سورية. غير أن الترتيبات التي يدرسها الأمريكيون مع الأكراد استفزّت روسيا إلى حد اعلان وزيرها سيرغي لافروف أن واشنطن تعمل على تقسيم سورية وإقامة «دويلة» شرقي الفرات.

مع اقتراب نهاية كل وجود جغرافي معروف لتنظيم «الدولة» (داعش) في سورية، استعدّ دونالد ترامب لإعلان «النصر النهائي» وأيضاً للتذكير بأحد أهم أسباب قراره المتّخذ بالانسحاب.

وقبل أن يفعل كان نائبه مايك بنس يقول أن ما يجري في سورية «تغيير في التكتيك، وكان جنرالاته يشيرون إلى أن المعركة مع «داعش» لم تنتهِ، فـ «المرحلة التالية» تستهدف خلاياه النائمة ومقاتليه المنتشرين في البادية السورية، أي أن الوجود الاستخباري سيستمرّ لإدارة المهمّات المقبلة لـ «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) التي طالب قائد القيادة المركزية جوزف فوتيل بمواصلة تسليحها «بعد الانسحاب».

لكن، إذا كانت الحال كذلك، فلماذا يناشد الأكراد الدول الأوروبية «عدم التخلّي عنهم» ولماذا يملأون الاعلام صراخاً بمخاوفهم من اجتياح تركي بات مستبعداً مع مختلف السيناريوات. إذ تراجع ترامب عن تسليم الشمال الشرقي إلى رجب طيب أردوغان، ومع أن فلاديمير بوتين راغب في استمالة أردوغان إلا أن استجابة طموحاته مسألة أخرى.

في أي حال، لم تعد مخاوف الأكراد كما كانت، ما يعني أنهم تلقوا ما يفيد بأن «تغيير التكتيك» الأمريكي سيكون بمشاركتهم وليس على حسابهم، أقلّه في المدى المنظور. ومع أنهم يواظبون على التحاور مع موسكو إلا أن اندفاعهم نحو النظام لم يعد كما بدا في الشهرين الماضيين، وهذا ما يفسر الرسالة التي خصّهم بها بشار الاسد بقوله في خطابه الأخير أن الولايات المتحدة لا تحمي من يراهنون عليها وأنه «لن يحميكم سوى دولتكم، ولن يدافع عنكم سوى الجيش العربي السوري». قد لا يكون الأسد مخطئاً في تقويمه للحماية الأميركية إلا أنه مخطئ في البديل الذي يعرضه، «دولتكم» و»جيشكم»، لأنه لم يعد مقنعاً، ليس للأكراد فحسب بل لعموم السوريين.

كانت لدى النظام فرصة في الحوار مع الأكراد، فلو توصّل معهم إلى اتفاق سياسي لكان كسب نقطة يمكن أن تشكّل مدخلاً لاستعادته السيطرة على محافظتَي الرقة ودير الزور. لم يكن متوقّعاً لهذا الحوار أن ينجح، فحتى لو كان النظام موافقاً نظرياً على المطالب الكردية إلا أن الإقرار بها سيبدو تنازلاً بل سيغدو سابقة واختراقاً في نهج التعنّت والغطرسة الذي اعتمده منذ بداية الأزمة. وعلى رغم تفهّم الروس تلك المطالب وحاجتهم إلى اجتذاب الأكراد في هذه المرحلة إلا أنهم لم يضغطوا على الأسد، فأي اتفاق مع الأكراد سيتناول بالضرورة مسائل ستكون موضع تجاذب لاحقاً في مناقشات اللجنة الدستورية، ويُفترض أن هناك ممثلين للأكراد في هذه اللجنة، وهؤلاء ليسوا – أو ليسوا جميعاً – ممثلين لـ «الاتحاد الديموقراطي – العمال الكردستاني» كما هي حال مَن يتحاورون الآن مع النظام.

حتى لو تواصل الحوار فإن الفرصة التي وفّرها تبدو ضائعة، إذ أحبطها الأمريكيون بشكل حاسم بعدما كانوا تركوا انطباعاً بأنهم يباركون هذا الحوار ولا يمانعون عودة مناطق «قسد» إلى سيطرة النظام وبإشراف روسي. تغيّر التوجه االأمريكي مع اقتراب موعد الانسحاب، بنهاية نيسان (ابريل) المقبل، ليطرح مقاربة لا تخلو من المخاطر، وقوامها إبقاء المعادلة الجغرافية على حالها، بوجودهم أو بغيابهم. فجأة تلقى أكراد «قسد» انذاراً اميركياً بأن تحالفهم مع روسيا والنظام يعني وقف المساعدات عنهم.

كان ذلك قبل أن يعلن المبعوث الخاص جيمس جيفري في مؤتمر ميونيخ أن أمريكا ترفض عودة شمال شرقي سوريا إلى النظام، وقبل أن يسمع الأكراد من الجنرال بول لاكاميرا أن القانون الأمريكي يحظر التعاون مع روسيا ونظام الأسد، وبالتالي فإن تسليح الأكراد وتدريبهم يستمران طالما بقي هؤلاء شركاء لأمريكا.

في ضوء ذلك يريد الأمريكيون أن تبقى المنطقة في أيدي «قسد» وقد باشروا التنسيق معها لليوم التالي بعد الانسحاب، ولم يعد حرجا كون القادة الرئيسيين في «قسد» من حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، أو لعلهم يعتبرون ذلك ميزة تعزّز ارتباط هذا الحزب، المصنّف إرهابيا ، في واشنطن التي منحته فرصة محاربة «داعش» لتطهيره من هذا التصنيف، فإذا تخلّت عنه سيفقد كل الامتيازات العسكرية والسياسية ولن يستطيع تعويضها مع الروس ولا مع النظام أو ايران. تبقى مسألة ضمانات الحماية التي يحاول الأمريكيون توفيرها عبر قوات فرنسية وبريطانية واحتمال إدخال إسرائيل على الخط. لكن الأهم أن الأمريكيين تنبّهوا أيضاً إلى أن الوضع الكردي نفسه في الشمال يحتاج إلى تطبيع داخلي، إذ أن «الكردستاني» وفرعه «الاتحاد الديموقراطي» لا يمثلان غالبية أكراد سورية، ولذلك دعا مستشار قوات التحالف ممثلين عن «المجلس الوطني الكردي» للبحث في مصالحة تفضي إلى انشاء إدارة جديدة تتمثّل فيها مكوّنات الشمال السوري كافةً من عرب وسريان وأرمن وغيرهم. لا تبدو هذه المصالحة مشروعاً سهلاً، لأن «الكردستاني» وفرعه مارسا اضطهاداً قاسياً ضد الأكراد المعارضين لهم وقد زادتهما الحرب تسلّطاً، كذلك لأن «المجلس» لم يعد حزباً سياسياً فحسب بل أن لديه قوات «بيشمركة» جرى إعدادها وتدريبها في كردستان العراق.

ليس واضحاً بعد كيف سيهندس الأمريكيون هذه المصالحة، ولا لأي هدف. لكن موسكو استشعرت توجّهاً نحو تقسيم سورية واتهمت واشنطن بانتهاك الالتزامات التي حددتها القرارات الدولية، ما يتطلّب ايضاحاً للنيات الأمريكية وكانت روسيا وشركائها في صيغة «سوتشي – استانا»، تركيا وايران، واظبت على افتتاح بياناتها بتأكيد التزامها على وحدة سورية، وقد رحّبت في قمتها الأخيرة بعزم الولايات المتحدة على الانسحاب، وها هي تكتشف أن هذا الانسحاب لن يكون فرصة لها بل ربما يفسد المحاصصات التي أجرتها وتجريها. في المقابل لا يستطيع الروس الادعاء بأن نياتهم واضحة بالنسبة إلى الحل السياسي في سورية، إذ انتهى المثير من المبعوثين الأمريكيين إلى خلاصة أبلغوها إلى محاوريهم من الأتراك والمعارضة السورية، وهي أن سيطرة الروس والإيرانيين والنظام على أدلب وشمال شرقي سورية من شأنها أن تدفن الحل السياسي نهائياً، وأن أنقرة اهتمّت بمصالحها ولم تستطع إحداث أي تغيير جوهري في الموقف الروسي. فمنذ بداية الأزمة السورية يلعب الروس على الغموض، وقد اتضح أن عدم كشف رؤياهم وفشلهم في دفع النظام إلى التفاوض على انتقال سياسي منظّم ودأبهم على العبث بتركيبة وفود المعارضة ثم بتركيبة اللجنة الدستورية كانت مناورات لتبديد الوقت والجهد وبالتالي لفرض حلّ الأمر الواقع ببقاء الأسد من دون أي تنازلات.

عبد الوهاب بدرخان/الحياة

-------------------------------

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا عن طريق إرسال كتاباتكم عبر البريد : vdcnsy@gmail.com

ملاحظاتك: اقترح تصحيحاً - وثق بنفسك - قاعدة بيانات

تابعنا : تويتر - تلغرام - فيسبوك